منذ ثلاثين عامًا، توقع الروائي الساخر يوسف عوف في أحد أعماله الساخرة، أن يصل الناس في القرن الثاني والعشرين إلى اختصار اللغة إلى أرقام، والمقررات الدراسية إلى أدوية في صورة حبوب يتعاطاها الطلاب .. صورة خيالية، لكنني أرى بوادرها في أرض الواقع، بعد أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولت التهاني والتعازي إلى تمائم صماء يتناقلها الناس فيما بينهم، دون عمل الفكر أو حضور الشعور؛ أحدهم لديه مخزن منسوخ من الصور والملصقات والنصوص والرسائل الصوتية، إذا أراد تهنئة أو تعزية أو مدحًا أو ذمًّا، فما عليه إلا أن يتفقد هذا المخزن فيحدد رسالة ويرسلها للشخص المقصود ويكون - من وجهة نظره - قد انتهى من أداء الواجب! ما يزيد هذه التمائم جمودًا وجفافًا، هو إرسالها للجميع، لمن نعرف ولمن لا نعرف؛ والمرسل إليه لا يهتم بقراءة محتوى الرسالة؛ لأنه يعرف أنها ليست من إنشاء المرسِل، وربما وصلته هذه الرسالة نفسها من عشرات قبل ذلك، وهو الآخر لديه مخزنه الذي سيستخدم إحدى تمائمه للرد على الرسالة!
الجمعة، 29 يناير 2021
التمائم اللغوية
قد يبدو هذا الشكل من التواصل تطورًا ناشئًا عن استخدام الأدوات الحديثة، ومتماشيًا مع عصر السرعة الذي نعيشه، ولكنه في الحقيقة ردة لغوية إلى البدائية والتقليد بلا إبداع، ومحاكاة للغات الكائنات الحية الأخرى!
اللغة عطاء وشعور وحياة .. لا بديل عن التواصل مع الآخرين بطريقة مباشرة، فإذا أردت التهنئة بالصوت، أسمعت الآخر صوتك أنت ونقلت إليه شعورك أنت، واجتزأت له من وقتك وروحك لتشعره أنه ليس وحده، وأن هناك من يهتمون به ..
كل عام أنتم جميعًا بخير بمناسبة عيد الفطر المبارك، أعاده الله علينا جميعًا وقد تخلص العالم من فيرس كورونا ومن مخازن التمائم اللغوية، وعاد الناس إلى حياتهم الحية المتجددة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق